مجموعة نصائح سريعة إلى أبناء وطني يدفعني إلى التفكير فيها ما نراه الآن من تدليس و ما نسمعه من شائعات طبائعها مختلفة و كذلك أشكالها و أهدافها. هذه النصائح مجردة عن أي انتماء سياسي أو فكري أو ديني، و إنما هي تأتي من إيماني بأن أي "إدارة" متعمدة لـ "الخبر" لتحقيق هدف بعينه، هي في الواقع تدخّل وقح في فطرة الأمور و من ثم هي آلة إنتاج لجراثيم تضر حتماً بأي مجتمع.
علينا أولاً أن نتذكر الفارق دائماً بين هذين المنتجين:
أولاً، الرأي: و هو ما تكفل له الحرية المطلقة كافة القوانين و الأعراف و التقاليد في العالم كله شرط أنه لم يدخل بصاحيه إلى دائرة السب و القذف و شرط أنه لم يتعد على حرية الآخرين. تبدأ الخطورة هنا إذا: (1) لم توضح وسيلة الإعلام و/أو صاحب الرأي أن تلك مساحة للرأي شخصية، تحتمل الصواب و تحتمل الخطأ. (2) خلط صاحب الرأي عامداً أو غير عامد بين رأيه الشخصي و وقائع بعينها دون أن يشير إلى أن تلك هي قراءته الشخصية و أنها ليست "معلومة" أو "خبرا" يزفه إلى القارئ. (3) نقل صاحب الرأي ما يمكن أن يدخل في دائرة "الخبر" دون أن يراعي الشروط المهنية لنقل الخبر. (4) لم يكن لدينا قارئ واعٍ لديه من الثقافة الإعلامية ذلك الحد الأدنى الذي يمكن أن يبدأ في تكوين حائط من المناعة أمام تلك الاحتمالات و غيرها. و نصحيتي هنا هي: أعط كل صاحب رأي فرصة، بل احرص على متابعة الأصوات المختلفة بغض النظر عن انتماءاتها، أو ما تظن أنه انتماءاتها، السياسية أو الفكرية أو الدينية، و لكن فقط إلى أن يثبت لك أنه حاول عمداً أن يخدعك. عندئذ أسقطه تماماً من حساباتك، فتلك مسألة تتعلق بالمبدأ، و المبدأ شرف.
ثانياً، الخبر: و هو عصب العمل الإعلامي و خبزه و ملحه. إن صح صحت معه العملية الإعلامية و إن فسد فسدت. و من ثم فإن قواعده أكثر صرامة من قواعد الرأي، كما أن المس بقواعده أكثر خطورة من أي منتج إعلامي آخر. تزيد الخطورة في حالات التوتر السياسي و الاجتماعي، كهذه الحالة التي نمر بها في مصر الآن. و مهما تغيرت الحالة تبقى القواعد ثابتة. لا بد للخبر أن يجيب على أربعة أسئلة على الأقل: من فعل ماذا متى و أين. و باستثناء حالات نادرة يكفلها القانون و المنطق، لا بد أن تكون الإجابة على هذه الأسئلة الأربعة في صيغة المُعرّف لا في صيغة المُجهَّل. حين ترى أو تسمع هذه الصيغة الأخيرة لا بد أن "يلعب الفأر في عبك" و لا بد أن تتساءل عن منطق الغياب: لماذا يتكرر استخدام تلك الـ "مصادر مطلعة"؟ و لماذا لم يذكر الخبر متى بالتحديد قال ذلك المصدر كلامه ذلك؟ أهو جهل أو قلة خبرة لا يساعدان الصحفي على التمييز أو على مقاومة المصادر الدخيلة؟ أم أنه كسل يمنعه من التأكد من مصادر أخرى؟ أم أنه غرض يدفعه إلى الاستسلام أو حتى إلى الاختلاق؟
و النصيحة هنا هي تنشيط قرون الاستشعار حين تغيب الإجابة عن واحد أو أكثر من تلك الأسئلة الأربعة، فإن لم تقتنع بوجاهة الغياب فإن أضعف الإيمان ألا تساهم فيما يمكن أن يكون مؤامرة صغرى عن طريق نقل "الخبر" المبتور و لو حتى إلى أقرب الناس. إذا فعلت هذا فإنك تقعل تماماً ما يريده هؤلاء الذين يمكن أن يكونوا وراء تلك المؤامرة الصغرى. تذكّر دائماً: النار تأكل بعضَها إن لم تجد ما تأكله.
و سوى هذه الأسئلة الأربعة الأساسية هناك سؤالان آخران يزيدان الأمور تعقيداً، هما كيف و لماذا، تنتقل الإجابة عليهما بالخبر الخام إلى أشكال أخرى معقدة من المنتجات الإعلامية كالريبورتاج و التحقيق و التوك شو و غيرها، و هو ما يزيد التحدي أمام المتلقي. ابحث دائماً، مهما اختلفت الأشكال، عن المصدر. مهمة الصحفي المهني أن يساعدك في هذا الاتجاه، فإذا لم يساعدك - لأنه جاهل أو لأنه كسول أو لأنه مغرض - فلا بد لك من أن تساعد نفسك بنفسك. أولى خطواتك على هذا الطريق هي رفض رواية لا يوجد لها مصدر مُعرّف. و ثانيها البحث عن مصادر أخرى إن توفرت، فإن لم تتوفر فإن أحداً ما في الغالب يريد أن يدير وعيك.
هذه المسألة تبدو معقدة، لكنها في الواقع أبسط مما تبدو. "الكدب مالوش رجلين" و نحن محظوظون لأننا نعيش اليوم في عالم صغير ملئ بالمنتجات التقنية و بمصادر لا حصر لها للمعلومة و الخبر. كن ذكياً و اختر لنفسك من المصادر تلك التي انتصرت في اختبار الزمن و الأزمة فاستطاعت أن تحتفظ لنفسها بالحد الأدنى من المصداقية التي استحقتها عبر فترة طويلة. ينطبق هذا على المؤسسات مثلما ينطبق على الأفراد، داخل مصر أو خارجها. و أخيراً، تذَكّر دائماً مرة أخرى أن النار تأكل بعضَها إن لم تجد ما تأكله.